عبد المجيد الثاني |
5 مارس 1924
دخل الشاعر عبد الحق حميد طارهان حجرة الخليفة عبد المجيد الالثاني في قصر دولما بهشة فوجده مطرق الرأس مهموماً. رفع الخليفة رأسه ناظراً بعينين غائرتين إلى صديقه الشاعر وأبلغه قرار المجلس الوطني الكبير بإلغاء مقام الخلافة وإعطائه مهلة حتى العاشرة مساءً لمغادرة البلاد وأخرى قدرها ثمانية وأربعين ساعة لباقي أفراد الأسرة العثمانية المالكة.
فوجئ الشاعر عندما وجد أن الخليفة قد حزم فعلاً بعض الحقائب. ولما رأى الخليفة علامات الدهشة على وجه صديقه الشاعر سأله قائلاً " ماذا افعل؟ وماذا تعتقد سيكون موقف جدي السلطان سليم لو واجه نفس هذا الموقف؟!" أجاب الشاعر بلا تردد " أمّا جدك السلطان سليم فسيكون له بالتأكيد موقف آخر .. لكنني أنصحك بإتمام حزم الأمتعة ومغادرة البلاد!!"
كان هذا اليوم هو الأخير والخاتم الأكثر حزناً لأسرة آل عثمان التي بدأت نسج خيوطها في ثياب الزمن قبل ستة قرون .. ومن يدري .. هل دار بخلد أحد أجداد هذا الخليفة العظام كمحمد الفاتح أو سليم أو سليمان القانوني وهم في ذرى مجدهم بيوم يأتي ليطرد أحفادهم من بلادهم على يد بعض من أفراد شعبهم؟!
قبل هذا اليوم بأقل من سنتين ألغى المجلس الوطني الكبير السلطنة تمهيداً لإعلان الجمهورية كنظام حكم .. لذا فعندما اختير عبد المجيد خليفة كان محروماً من أي سلطة سياسية ، بل بات رمزاً دينياً لا غير.
لم يدرك الخليفة عبد المجيد عمق التغيير الذي أصاب مقام الخلافة فخلع رداء الحيطة والحذر وبدأ في استقبال العديد من كبار الشخصيات وأمعن في تزيين موكبه أثناء مغادرته القصر للصلاة في المسجد بأبهة تركها حتى السلاطين في أواخر عهدهم واعتقد أنه بهذا سيضفي على الخلافة أبهة افتقدتها بفقدان عصا السلطنة.
كانت الحكومة التي انتخبت من قبل المجلس الوطني الكبير تراقب بريب من العاصمة الجديدة أنقرة تحركات الخليفة عبد المجيد في عاصمة السلاطين المجيدة ومظاهر الأبهة التي تلف موكبه عند الذهاب والإياب وتذكر الناس بأيام السلطنة التي يحن إليها الكثيرون.
أخذ الجمهوريون تحركات الخليفة عبد المجيد محمل الجد وباتوا يخشون على جمهوريتهم الوليدة فجاءت ضربتهم قاضية عندما اتخذ المجلس الوطني الكبير قراره التاريخي بإلغاء الخلافة وترحيل الخليفة المخلوع وكافة أسرة آل عثمان إلى خارج البلاد.
ومن سخريات القدر أن بعض النواب في المجلس اعتقد أن مصطفى كمال أول رئيس للجمهورية يريد الاستحواذ على منصب الخليفة فاقترحوا عليه قبل إلغاء مقام الخلافة أن يتم تعيينه خليفة بدلاً من عبد المجيد فأجابهم أن البرلمان هو من سيمثل مقام الخلافة في هذا العصر!!
للخليفة عبد المجيد جوانب إنسانية يجب ذكرها فهو لم يولد سياسياً بل تربى في القصر كغيره من أمراء آل عثمان في العهد الأخير المشحون بالنوائب لكن عبد المجيد كان يملك موهبة الرسم. وبإمكان كل من يزور قصر دولما بهشة مشاهدة بعض قطع الرسم الرائعة التي رسمها هذا الخليفة غير أن إحداها تختلف عن البقية كونها تمثل ابنته المحبوبة إلى قلبه وأجمل فتيات عصرها التي لا تفارقه أبداً وهي الأميرة درُّ الشهوار .. أو درّة الملوك!
كانت الأميرة درُّ الشهوار في العاشرة من عمرها عندما صدر قرار ترحيل أباها وأسرتها من البلاد.. وهي تستعيد تلك الساعات الحزينة في مذكراتها التي دونتها قائلة:" إلى أين نحن ذاهبون؟ ربما إلى مأساة غير متوقعة وربما إلى أيام غربة مملوءة بالجفاء والألم.. بهذه الضربة تحطمت جميع آمالي وانطفأت جميع أنوار سعادتي".
حط الخليفة عبد المجيد وعائلته الرحال في مدينة نيس بفرنسا. وبعد سنوات قليلة من ضيق العيش غادر وعائلته إلى الهند ضيفاً على نظام الدين حاكم مقاطعة حيدر أباد الذي كان أغنى حاكم في العالم. وفي العام 1931 تزوجت درُّ الشهوار من ابن ذلك الحاكم وباتت تحمل لقب أميرة برار.
في العام 1944 توفي الخليفة عبد المجيد ومن أجل سعي درّ الشهوار لدفن والدها في تركيا قامت بصفتها أميرة برار بزيارة تركيا ومقابلة رئيس الجمهورية عصمت إينونو. وعلى الرغم من مقابلته وحرمه لها لكنها لم تستطع إقناعه بدفن والدها هناك وخرجت كسيرة الجناح والخاطر لكنها عاقدة العزم على السعي من أجل ذلك مستقبلاً. لذلك تم حفظ جثمان الخليفة عبد المجيد في أحد مساجد باريس.
وفي العام 1954 قامت بزيارة ثانية لتركيا وأقنعت عدنان مندريس رئيس الحكومة آنذاك الذي ينتمي إلى الحزب الديمقراطي الجديد بدفنه في تركيا. لكن المجلس الوطني التركي علّق البت في هذه المسالة بعد معارضة بعض نواب حزب الشعب الجمهوري ، فتحطمت آمال درُّ الشهوار بدفن والدها في بلاد أجداده.
ويأبى القدر إلاّ أن يخط نهاية لهذه القصة الحزينة لجثمان آخر خليفة فقد قامت درُّ الشهوار بالسعي أخيراً لدفنه في المملكة العربية السعودية ونجحت حتى ووري الثرى في المدينة المنورة وبهذا تكون قد أوفت بأمانتها ومحبتها لوالدها وإن كان بعيداً عن أرض أجداده لكنه قريب وجار لخير الأنام.
لم تغفر درُّ الشهوار لبلدها الذي رفض عودة والدها ولو بلا روح .. لذا لم تستعد الجنسية التركية بعد السماح لعائلة آل عثمان بذلك بل بقيت تحمل جواز سفر إنجليزي ، وإن قامت برحلات نادرة لزيارة إحدى قريباتها في تركيا .. بيد أنها لم تستقر هناك رغم الدعوات الكثيرة لها.
في السابع من فبراير الماضي توفيت درة الملوك وجميلة جميلات عصرها في مدينة لندن عن عمر يناهز الثانية والتسعون .. وقد أوصت ولديها اللذين يقيمان في حيدر أباد بالهند بدفنها بمقبرة المسلمين في لندن المسماة برووك وود وليس في بلاد أجدادها.
وبهذا أثبتت هذه الأميرة حبها وإخلاصها لوالدها بتمسكها بموقفها في عتابها على بلد آبائها وأجدادها .. على الرغم من أنها عند مغادرتها وطنها عام 1924 وهي طفلة في العاشرة قد أثبتت تعلقها وعمق محبتها لبلدها عندما التقطت وهي درّة الملوك حصاة صغيرة لتذكرها بوطنها في الغربة .. هي بالنسبة إليها أغلى من كل الدرر