ظاهرة موسيقية قد تعتبر الظاهرة الوحيدة التي تستحق الوقوف عندها طويلاً وتأملها بعناية شديدة .. هذا إذا استثنينا ظاهرة أخرى هي ظاهرة استمرار العملاق محمد عبد الوهاب الإبداعي، لمدة تزيد عن ستين عاماً. ومحمد القصبجي برأيي وبرأي الكثيرين من الخاصة وعامة الناس يعد أهم ملحن عربي في القرن العشرين. يعد القصبجي أبو الأغنية الرومانسية العربية والمطور الأقوى للأغنية العربية بشكل عام فقد سبق هذا المبدع زمانه وبمراحل فقد كان فكره الموسيقي متجدداً باستمرار إلى درجة أن التجديد أصبح هاجساً ملازماً له. والمستمع الممتاز لألحان القصبجي يتحسس فوراً طبيعة هذا العبقري العاطفية من خلال براعته في تصوير ما يجول في النفوس البشرية من مشاعر وأحاسيس مضطرمة بطريقة أقرب للغناء الراقي منه للغناء الشعبي.
كان القصبجي يؤمن بالبعد الدرامي للموسيقا والغناء. لذلك كان التعبير اللحني والتعبير بالأداء هو أشد اهتماماته ويبدو هذا جلياً في تلحينه للمونولوج ومثال ذلك منولوجه الشهير الذي غنته أم كلثوم مادام تحب تنكر ليه. و القصبجي ومن خلال تعرفه إلى رفيق دربه أحمد رامي الشاعر الذي تأثر بالرومانسية الأوربية الذي تعرف إليها خلال دراسته في أوروبا دخل هذا المجال من أوسع الأبواب حين ابتدع هو وأحمد رامي لوناً غنائياً عربياً أسمياه المونولوج ( تسمية أوروبية للغناء الرومانسي ).
سيطر هذا القالب على جميع القوالب الغنائية العربية الأخرى التي كانت سائدة ذلك العصر. ولحق بالقصبجي جميع ملحني عصره مثل محمد عبد الوهاب ومحمد السنباطي و ذكريا أحمد و داوود حسني و غيرهم . حتى أمير الشعراء لحق بهذه الموجه فكتب بهذا القالب مونولوجاته الشهيرة بلبل حيران وغيرها . ويعتبر منولوج إن كنت أسامح فتحاً وتطويراً جديدا في الأغنية العربية حيث لاقت نجاحاً هائلاً ولكنها بالمقابل لاقت استهجاناً من بعض ملحني ومطربي ذاك العصر حتى أن البعض تنبأ بسقوط هذا اللون الغنائي الجديد . ولكن القصبجي أثبت وبالدليل القاطع أنه سابق لعصره فسرعان ما انتشرت الأغنية انتشاراً واسعا وباعت أرقاماً فلكية حتى أنها تعد السبب الرئيسي لشهرة أم كلثوم في مصر والبلاد العربية .
طور محمد القصبجي التخت الشرقي فحاول الارتقاء به من ناحية العدد والنوع حيث لحن جملاً بعيدة عن التقليدية مما أجبر العازفين على تطوير مهاراتهم من خلال الدراسة والتمرين . يعتبر القصبجي من أهم عازفي العود على الإطلاق . حيث تخرج على يديه الكثير من العازفين المهرة والكثير الكثير من الملحنين .
لحن القصبجي للكثيرين وأهمهم أم كلثوم ، منيرة المهدية ، أسمهان ، ليلى مراد ، وسعاد محمد . سكت القصبجي فجأة عام 1946 وتفرغ للعزف مع أم كلثوم وكثير من المؤرخين الذين عاصروا هذا العملاق قرروا أن هذا التوقف سببه قصة حبه الشهيرة لأم كلثوم والبعض الآخر قال أنها السبب لأنها أرادت أن يتوقف عن التلحين لليلى مراد وأسمهان حيث أنهما بدأتا تشكلان خطراً داهماً عليها . ولكنني أرجح أن السبب الأول هو الأصح وخاصة أن طبيعة القصبجي الشديدة العاطفية قد تمنعه من الإبداع . محمد القصبجي مظلوم بحق فالكثيرين لا يعرفونه وبعض الناس يعرفونه من خلال أغنية أم كلثوم رق الحبيب فهل آن الأوان لنعيد اكتشاف هذا المبدع.
صور نادرة للقصبجي
القصبجي مع فرقة صالح الكويتي 1936