مشوار حياة الموسيقار ذكريا أحمد 1883 - 1960
ولد ذكريا عام 1883 لأب عالم هو الشيخ أحمد حسن الملاحظ في الجامع الأزهر آنذاك و كان من حفظة القرآن الكريم . ألحقه أبوه بأحد الكتاتيب ثم طالبا في الأزهر فتزود الولد بالمعرفة و اكتسب لقب الشيخ أي العارف بأسرار الدين الإسلامي ، قضى الشيخ زكريا ست سنوات في الأزهر من السادسة إلى الثانية عشرة من عمره وتعلم القراءة والكتابة و أخذ نصيبه من العلم كما أكمل حفظ القرآن الكريم وكانت دروس الفقه و النحو والصرف تدرس آنذاك في أروقة الأزهر وقد جرت عادة الأزهر وقتئذ أن يحتفل الطلاب والمشايخ بإنجاز قراءة كل كتاب من كتب التدريس وكان الاحتفال يجري على الطريقة التالية يجلس التلاميذ في حلقة مستديرة ثم ينتخب من بينهم تلميذ مشهود له بإتقان تلاوة القرآن فيتلو ما تيسر وتختتم بذلك الحفلة وكان الشيخ زكريا هو المبرز دائما في هذه الحفلات فكم من مرات عديدة قرأ العشر وترنم في تلاوته بصوته الجميل وانتزع إعجاب مشايخه وتلاميذهم وكان الشيخ زكريا فخورا باستماع الناس إلى جمال صوته وحسن أداءه وفي الحقيقة إن الشيخ زكريا أحمد لم يخلق إلا ليكون مطربا وملحنا وفنانا ذا شهرة كبيرة في العالم العربي ولذا فان محاولات والده في الدراسة كانت عقيمة وغير مجدية . إذ أن الشيخ زكريا حينما كان يسمع درس الجغرافيا أو التاريخ أو الفقه لا يعلق بذهنه شيء ولكنه حينما يسمع أغنية أو موالا لمرة واحدة كان يحفظها ويرددها في الحال فكيف العمل إذا ووالد زكريا مصمم على أن يتابع ابنه الدراسة العلمية وزكريا بعيد عن ذلك الاتجاه ,. كانت الكتب الموسيقية التي كان يشتريها الشيخ زكريا يضع لها أغلفة دينية أو لغوية وقد وضع غلاف الفقيه ابن مالك على كتاب مفرح الجنس اللطيف وعندما سأله والده ذات ليلة عما يدرسه قال له الفقيه ابن مالك ولما تبين الوالد كذبه قسا عليه بشدة مما دفع بالولد للهرب من البيت وكرهه الحياة فخرج من المنزل لا يلوي على شيء وهام على وجهه في الشوارع وبعد أيام قام الأهل والأصدقاء بدور الوسيط بين الولد ووالده وعاد الشيخ زكريا إلى منزل والده فقام الوالد بنصيحته وتوجيهه وقلبه يتقطع أسى وحسرة على ولده الذي ينحرف عن طريق العلم والأمان فقال يا بني الفن لا يوكل عيشا وهاهو عبده الحمولي سلطان الطرب مات ولم يترك لولده ما يتعلم به وهاهو محمد عثمان سيد من غنى وسيد من لحن وسيد من أحيا حفلات الطرب لم يجد أهله في بيته ساعة موته تكاليف الجنازة التي ستنقله إلى دنيا الخلود وهاهو محمد سالم العجوز الذي عاش أكثر من مائة عام والدنيا تصفق له والذهب يجري بين يديه لم يتمكن في بعض الأحيان من دفع ثمن الدواء الذي لا يتجاوز بضعة قروش فاقلع يا بني عن فكرة الفن وعد إلى دراستك راشدا لتؤمن مستقبلك على أحسن وجه وأسلم حال ولكن أين مكان النصيحة من فكر زكريا والفن قد طغى على نفسه وروحه وسائر حواسه ولم تكن حياة هذا الفنان في تلك الفترة من حياته هادئة ولا مستقرة ولا ناعمة فقد ماتت والدته وتزوج والده وكانت الزوجة الجديدة بالرغم من تظاهرها بالعطف على زكريا تكيد له المكائد وتسود صفحته عند والده وأخيرا استسلم الوالد للأمر الواقع وسار الشيخ زكريا في طريق الفن علنا فكان يزور المسارح والأجواق ليسمع ويتعلم كل ما يسمعه وقد هيأ له القدر اجتماعا بالموسيقار الشيخ درويش الحريري الذي أحب تلميذه زكريا وأفاض عليه مما وهبه الله من فنون وعلوم ومعرفة من هذا الفن الجميل وأول دروسه كانت ألحان المولد النبوي وما تحتويه من تقلبات الأنغام وتنقلات الأوزان فبرع في تلقيها وأدائها واشتهر بها وقدم الشيخ درويش لزكريا خدمة لا تقدر بثمن وذلك عندما ألحقه ببطانة الشيخ علي محمود الذي كان إلى جانب معرفته الموسيقية وفن قراءة القرآن من هواة الأذان والتسابيح والاستغاثات التي تتلى قبل الفجر في المسجد الحسيني وكانت تؤدى على نهج خاص ونغمات معينة فنغمة يوم السبت كانت العشاق ويوم الأحد الحجاز أما يوم الاثنين فنغمته السيكاه إذا كان أول اثنين من الشهر وبياتي إذا كان ثاني اثنين وحجاز إذا كان ثالثه وشورى على جهار كار إذا كان رابع أو خامس أيام الاثنين ويوم الثلاثاء سيكاه والأربعاء جهار كاه والخميس رست والجمعة بياتي وتلقى عن الشيخ إبراهيم المغربي أصول تركيب الألحان وعلم النغمات وضروب الإيقاع كما تلقى عن الشيخ محمود عبد الرحيم المسلوب الموشحات العربية وحفظ أيضا أدوار عبده الحمولي ومحمد عثمان وإبراهيم القباني ثم تعلم أصول التدوين الموسيقي النوطة وبدأ رؤساء التخوت الغنائية تتهافت على اكتساب هذا العنصر الجديد في عالم الغناء والطرب من تلك الفرق نذكر فرقة الشيخ أحمد الحمزاوي والملحن الشيخ سيد مرسي والشيخ إسماعيل سكر رئيس قراء قصة المولد في القاهرة والشيخ علي محمود وهكذا أصبح الشيخ زكريا في بداية الطريق الذي جاهد من أجله وغدا موضع إعجاب سائر الأوساط الفنية الموسيقية في القاهرة بعد جهاد طويل مرير تمكن الشيخ زكريا أحمد من الوصول إلى هدفه ومبتغاه وحصل على المعرفة الفنية الموسيقية بأكمل معانيها ولكن لكل بداية صعوبات ومشقات لابد لتذليلها من جرأة وإقدام وتضحيات وقد أحس الشيخ زكريا بأن قوة جديدة أوشكت أن تدفعه إلى الأمام وتأكد أن قدمه في ميدان الفن قد بدأـ ترسخ و تثبت وتتحمل الأعاصير وبدأ يمهد لانطلاقة جديدة تتلاءم وما استفاده في هذه المرحلة من دراسة وتجربة وأخطاء ولكنه مهما استفاد من هذه الخبرة فهو في الحقيقة في بداية الطريق من حيث سنه وخبرته أصابته ضائقة مالية كادت تزحزح كيانه فقام أصدقاؤه يبحثون له عن مخرج من تلك الأزمة الخانقة وعرض عليه أحدهم بتقديم بعض الألحان الطقاطيق لشركة اسطوانات بيضافون فاعتذر الشيخ زكريا لرهبته من المعركة للمرة الأولى فأصر عليه هؤلاء الأصدقاء أمثال الشيخ علي محمود والشيخ درويش الحريري وتعهدوا له بإصلاح ما يخطئ به في ألحانه وذهبوا في اليوم التالي إلى الشركة المذكورة وتعقدوا معها على إملاء بعض الاسطوانات وبعد أن تم العقد بينهم خرج كل منهم وفي جيبه خمسة عشر جنيها وكان هذا المبلغ بالنسبة للملحن المبتدئ لا يستهان به وفي تلك الليلة جلس زكريا يحاول محاولته الأولى وفي اليوم التالي عرضت الألحان على الشيخ علي محمد والشيخ درويش الحريري فأصلحها وتمت بالفعل الخطوة الأولى من المرحلة الكبيرة التي خلق لها هذا الملحن الموهوب لقد لحن الشيخ زكريا خمسا وستين أوبرا وأوبريت وكان أجمل وأقوى إنتاج هو ما لحنه بين عامي 1924 و 1930 فلحن لفرقة علي الكسار دولة الحظ في نهاية عام 1924 ولحن في عام 1925 روايات الغول و ناظر الزراعة و عثمان ح يخش دنيا و الطنبورة و الخالة الأميركانية و ابن الرجا وفي عام 1926 لحن روايات 28يوم و أنوار و آخر المودة و نادي السمر و أبو زعيزع و الوارث و حكيم الزمان وكان كل هذا لفرقة علي الكسار كما لحن لفرقة زكي عكاشة رواية علي بابا و الأستاذ ولحن لفرقة علي الكسار أيضا 1927 ملكة الجمال و قفشتك و ابن فرعون و زهرة الربيع و الساحر ابو فصادة و حلم ولا علم و السكرتير و غاية المنا و بدر البدور و خمسة مليون ولحن لمسرح الريحاني عام 1928 ياسمينة ثم البلابل ولحن لفرقة الكسار الكنوز وفي عامي 1929 1930 لحن لفرقة الكسار أيضا العروسة و العيلة و مين فيهم و ما فيش منها و ابن الاومباشي و طاحونة الهوا و ملكة الغابة ولفرقة صالح عبد الحي لحن قاضي الغرام و عيد البشاير و الهادي و قد تضمنت هذه الروايات ما يزيد على خمسمائة لحن بلغت أكثرها قمة النجاح والشهرة أما ألحان الشيخ زكريا للأدوار المصرية والقصائد والطقاطيق فقد بلغ في هذه الألوان قمة الإجادة والإبداع وكانت خطواته الأولى في ميدان الأدوار دور الراست يا قلبي كان مالك و هو ده يخلص من الله الزنجران و ايمتى الهوى يجي سوا الهزام ويذكر أحد أصدقاء الشيخ زكريا واسمه ماهر فرج عن قصة دور هو ده يخلص من الله أن زكريا قضى ثلاثة أشهر وهو يعد هذا اللحن وكان يقضي ساعات طويلة من الفجر إلى مغرب اليوم التالي سارحا في أجواء هذا اللحن وحدث أن انتابه المرض أكثر من مرة في هذه الأشهر الثلاثة ولكنه كان يتجلد ويستمر في التلحين وعندما انتهى منه وأصبح راضيا عنه ذهب به إلى أم كلثوم وانتقل اللحن من قمة التلحين إلى قمة الأصوات الساحرة صوت أم كلثوم وفي الحقيقة أن هذا الدور كان حدثا فنيا رائعا تحدثت عنه الصحف المصرية والعربية أياما طويلة لأنه كان تطويرا للأغنية العربية في مطلع القرن العشرين ودور زكريا في الألحان الخفيفة الطقاطيق كان رائعا أذكر من هذه الألحان الأغنية من نغم الشورى قالوا لي ايمتى قلبك يطيب و العزول فايق ورايق ثم من أغانيه الحديثة الورد جميل على أن هذه الأغنية غنتها أم كلثوم بصوتها الفاتن ثم غناها زكريا وشتان بين الصوتين على أن بعض من الجمهور المستمع أثنى على أداء الشيخ زكريا على الرغم من بساطة صوته لأنه حينما غناها كان يتحسس بألفاظها ومعانيها وكلماتها كلمة كلمة لقد استطاع زكريا أن يهز مشاعر سامعيه بأدائه تلك الأغنية بذلك الإبداع الذي استأثر به هذا الفنان الموهوب الأمر الذي يترجم مشاعر زكريا وانفعالاته في مجال إبداعه ويروي زكريا أحرج مواقفه حين اجتماعه مع بعض الزملاء المنشدين للاحتفال بتجديد بعض معالم المسجد الأقصى فطلبوا من أحد زملائه أن يقرأ عشرا من القرآن الكريم استهلالا للحفل وكان ذلك المقرئ ضعيفا في أدائه كما لم تكن الآيات التي قرأها مناسبة للمقام فذهبت إلى حيث يجلس وهمست في أذنه أن يترك المكان فورا ويذهب إلى خارج المسجد بحجة من الحجج وفعلا ذهب وبدأت أقرأ مكانه الآيات المناسبة كقوله تعالى إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وقرأت سورة الكهف كاملة وأذنت لصلاة الجمعة وكنت فعلا في حالة تجل ولم أحس أن في المسجد أناسا بل كنت أشعر بأنني كنت أخاطب الله ورسوله وكان لهذا العمل الذي قمت به أعظم نجاح أحرزته في حياتي توفي هذا الفنان الكبير في القاهرة في منتصف عام 1960 ودفن فيها وكان في حياته رسولا أمينا لفنه وعلمه ومعرفته وقلما يجود الزمان بأمثال هؤلاء العباقرة على الأمة العربية أن حياتهم بالنسبة لجمهورهم كذكرى وعبرة للذين يسلكون مسلكهم في طريقهم الصعب الطويل وجهادهم الفني الصحيح .